فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

{هَلْ أَتَاكَ حديث مُوسَى (15)}
بعد أن واجهت الآيات السابقة المشركين، بما يقع في نفوسهم من كمد وحسرة، حين تفجؤهم الساعة بأحداثها، وحين بقلت من أيديهم الطريق إلى النجاة- جاءت هذه الآيات لتعرض عليهم وجها من وجوه الضلال، فيه مشابه كثيرة منهم، وهو وجه (فرعون) وقد أشرنا في غير موضع إلى أن القرآن الكريم كثيرا ما يجمع بين هؤلاء المشركين وبين فرعون، إذ كانوا أشبه الناس به، عنادا، واستعلاء، وكبرا.
وقوله تعالى: {هَلْ أَتاكَ حديث مُوسى}..
الخطاب من اللّه سبحانه وتعالى للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- وفيه استدعاء له من هذا الجو الخانق الذي ينفث فيه المشركون سمومهم والذي ترمى فيه أنفاسهم بدخان كثيف من تلك النار المشتعلة في قلوبهم، كمدا، وغيظا من النبي ودعوته.. وفى هذا الخطاب إدناء للنبىّ الكريم من ربه جلّ وعلا، وإيناس له.
والاستفهام، يراد به الخبر.. أي لم يأتك حديث موسى.. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر في صيغة الاستفهام، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف، وكريم الإحسان من اللّه سبحانه إلى النبي الكريم، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب، في رفق، ومودّة، ليقول له: {هَلْ أَتاكَ حديث مُوسى}؟ أي أعلمت حديث موسى؟ وأ تريد أن تعلمه؟ ألا، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبي من آيات اللّه، من نبأ موسى وفرعون..
وقوله تعالى: {إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طوى} أي الحديث الذي نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى، هو ما كان من نداء اللّه سبحانه وتعالى، إياه، وهو بالواد المقدس {طوى}..
و(الوادي المقدس)، هو واد في أسفل جبل سيناء، من الجانب الأيمن منه، في الطريق المتجه من الشام إلى مصر.. كما يقول سبحانه: {وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} (52: مريم) و{طوى} اسم لهذا الوادي.
قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} هو بيان لما نودى به موسى من ربه، أي ناداه سبحانه بـ: قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ} وقوله تعالى: {إنه طغى} هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه.. إنه طغى، وتجاوز الحدود في بغيه وعدوانه، وفى كفره وضلاله.
قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تزكى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى}.
وتلك هي الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون..
وقوله تعالى: {هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تزكى} أي هل تودّ أن تتزكى، ويتطهر؟
وفى هذا الأسلوب الاستفهامى، ترفق وتلطف في الدعوة إلى اللّه، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين..
إن الحكمة تقضى في مثل هذا المقام، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه، وأن يترفق في الدخول إلى قلبه، حتى يجد منه أذنا صاغية، وقلبا واعيا، إذا كان فيه بقية من عقل، أو يقظة من ضمير.. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه- لو جاءه آمرا، أو زاجرا، أو فاضحا لحاله المتلبس بها، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون؟
ولهذا جاء قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تزكى} راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقولا لَهُ قولا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} (43- 44: طه).
وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى، والمثل الكامل القويم، لأصحاب الدعوات، من القادة، والزعماء، والمصلحين.. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب، إلا إذا جعلوا الرفق واللين سبيلها إلى الناس، والا إذا غذّوها بمشاعر الحبّ، والرغبة الصادقة في الإصلاح، وبخاصة إذا كان الداعي يدعو إلى حقّ، ويهدف إلى هدى وإصلاح: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (145: النحل).
وليس مما يدخل في هذا الباب، المداهنة، والمخادعة، والنفاق.. فذلك كله شر، إذا اختلط بالدعوة الصالحة أفسدها، وإذا خالط الحقّ أثار الدخان الكثيف في سمائه الصافية، فغشّى على الأبصار، وحجب الرؤية عن مواقع الهدى.. قوله تعالى: {فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى}.
هنا كلام كثير محذوف، دلّ عليه المقام، أي فجاء موسى إلى فرعون ودعاه في رفق ولطف إلى اللّه، فما كان من فرعون إلا أن ردّ موسى ردّا قبيحا، وأغلظ له القول، ورماه بالكذب والجنون، فلما أراد موسى أن يدفع هذه التّهم عنه، ويثبت لفرعون أنه رسول ربّ العالمين، تحدّاه فرعون بأن يأتى بما يدلّ على أنه رسول من عند اللّه- {فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى} وهى العصا وانقلابها حية تسعى.. وهى أكبر الآيات التي بين يدى موسى..
وقوله تعالى: {فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقال أنا رَبُّكُمُ الْأَعلى}.
هذا بيان لموقف فرعون بعد أن أراه موسى الآية الكبرى.. لقد كذب بما رأى، واتهم موسى بأنه ساحر.. ثم جمع سحرته، ولقى بهم موسى، معلنا في الناس أنه الرب الأعلى، وأن الرب الذي يدعو إليه موسى، هو رب دونه منزلة وعلوّا.. فهكذا يبلغ الضلال والسّفه بالضالين السفهاء!! وفى قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى} إشارة إلى أنه بعد أن رأى الحية وأفاعيلها، وما أوقعته في قلبه وقلوب من معه- لبس ثوب الحية، فجعل يسعى في الناس مهددا متوعدا، باعثا الرعب والفزع في القلوب، حتى يخرج منها هذا الفزع الذي استولى عليها من حيّة موسى.
قوله تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نكال الْآخِرَةِ وَالْأُولى} هذه هو ختام القصة.. لقد انتهت بهزيمة فرعون، وخزيه، وفضح ربوبيته على أعين الناس.. ثم لم يقف الأمر عند هذا، بل أخذه اللّه بالعذاب في الآخرة، بأن أعد له أسوأ مكان في جهنم، كما أخذه بالعذاب في الدنيا بأن أماته شرّ ميتة، بأن أهلكه غرقاً، ثم ألقى جثته المتعفنة على الشاطئ، وقد عافت حيوانات البر أن تطعم منها، بل ظلت هكذا عبرة وعظة، في هذا الإله المتعفن، الذي يزكم الأنوف ريحه النتن، {فَالْيوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (92: يونس) وقدّم نكال الآخرة على نكال الأولى، لأن عذاب الآخرة أشد وأقسى، لا يكاد ما لقيه فرعون من عذاب في الدنيا يعدّ شيئا بالنسبة سيلقاه لما في الآخرة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{هَلْ أَتَاكَ حديث مُوسَى (15)}
هذه الآية اعتراض بين جملة {فإنما هي زجرة واحدة} [النازعات: 13] وبين جملة {أأنتم أشد خلقاً} [النازعات: 27] الذي هو الحجة على إثبات البعث ثم الإِنذار بما بعده دعت إلى استطراده مناسبة التهديد لمنكري ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من البعث لتَماثُل حال المشركين في طغيانهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال فرعون وقومه وتماثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه بحال موسى عليه السلام مع فرعون ليحصل من ذكر قصة موسى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وموعظة للمشركين وأيمتهم مثل أبي جهل وأميةَ بننِ خلف وأضرابهما لقوله في آخرها {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 26].
و{هل أتاك} استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخير من غير قصد إلى استعلام المخاطَببِ عن سابققِ علمه بذلك الخبر، فسواء في ذلك عَلِمه من قبل أو لم يعلمه، ولذلك لا ينتظِر المتكلم بهذا الاستفهام جواباً عنه من المسؤول بل يعقّب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه.
ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غيرَ {هل} لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهَم عنه، فهي في الاستفهام مثل (قَد) في الإِخبار، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر، ومن قبيله قولهم في الاستفهام: أليس قد علمتَ كذا فيأتون بـ: (قد) مع فعل النفي المقترن باستفهام إِنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققاً عند المتكلم.
والخطاب لغير معيّن فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول.
و{أتاك} معناه: بلغك، استعير الإِتيان لحصول العلم تشبيهاً للمعقول بالمحسوس كأنَّ الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية، أو كأنَّ الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإِتيان على طريقة الاستعارة المكنية، قال النابغة:
أتاني أبيتَ اللعن أنَّك لُمتني

والحديث: الخبر، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان، أي الحادث من أحوال الناس وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث، أي خبر الحادث.
و{إذْ} اسم زمان، واستعمل هنا في الماضي وهو بَدل من {حديث موسى} بدل اشتمال لأن حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك.
وكما جاز أن تكون (إذْ) بدلاً من المفعول به في قوله تعالى: {واذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ كنتم أعداء} [آل عمران: 103] يجوز أن تكون بدلاً من الفاعل وغيره.
واقتصار ابن هشام وغيره على أنها تكون مفعولاً به أو بدلاً من المفعول به اقتصار على أكثر موارد استعمالها إذا خرجت عن الظرفية، فقد جوز في (الكشاف) وقوع (إذْ) مبتدأ في قراءة من قرأ:
{لقد من اللَّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً} في سورة آل عمران (164).
وأُضيف {إذْ} إلى جملة {ناداه ربه}.
والمعنى: هل أتاك خَبر زماننِ نادى فيه موسى ربُّه.
والواد: المكان المنخفض بين الجبال.
والمقدّس: المطهّر.
والمراد به التطهير المعنوي وهو التشريف والتبريك لأجل ما نزل فيه من كلام الله دون توسط ملَك يبلغ الكلام إلى موسى عليه السلام، وذلك تقديس خاص، ولذلك قال الله له في الآية الأخرى {فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس} [طه: 12].
و{طوى}: اسم مَكان ولعله هو نوع من الأودية يشبه البئر المطوية، وقد سمي مكان بظاهر مكة ذَا طوى بضم الطاء وبفتحها وكسرها.
وتقدم في سورة طه.
وهذا واد في جانب جبل الطور في برية سينا في جانبه الغربي.
وقرأ الجمهور {طوى} بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بتأويل البُقعة، أو للعدل عن طَاوٍ، أو للعجمة.
وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف منوناً باعتباره اسم وادٍ مذكَّر اللفظ.
وجملة {اذْهب إلى فرعون} بيان لجملة {ناداه ربه}.
وجملة {إنه طغى} تعليل للأمر في قوله: {اذهب}، ولذلك افتتحت بحرف (إنَّ) الذي هو للاهتمام ويفيد مُفاد التعليل.
والطغيان إفراط التكبر وتقدم عند قوله: {للطاغين مئاباً} في سورة النبأ (22).
و{فرعون}: لقب ملك القِبط بمصر في القديم، وهو اسم معرَّب عن اللغة العبرانية ولا يعلم هل هو اسم للمَلك في لغة القِبط ولم يُطلقه القرآن إلا على ملك مصر الذي أرسل إليه موسى، وأُطلقَ على الذي في زمن يوسف اسم المَلِك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه} في سورة الأعراف (103).
و{هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك} عرْض وترغيب قال تعالى: {فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44].
وقوله: {هل لك} تركيب جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا التركيب لأنه قصد به الإِيجاز يقال: هل لك إلى كذا؟ وهل لك في كذا؟ وهو كلام يقصد منه العرض بقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل؟ ومنه قول كعب:
ألا بلّغا عني بجيراً رسالة ** فهل لك فيما قُلْت ويْحَكَ هَلْ لَكَا

بضم تاء (قلتُ).
وقول بجير أخيه في جوابه عن أبياته:
مَن مبلغٌ كعباً فهل لك في التي ** تَلومُ عليها باطلاً وهي أحزم

و{لك} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هل لك رغبة في كذا؟ فحُذف (رغبة) واكتفي بدلالة حرف (في) عليه، وقالوا: هل لك إلى كذا؟ على تقدير: هل لك مَيل؟ فحذف (مَيل) لدلالة (إلى) عليه.
قال الطيبي: قال ابن جني: متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر فكثيراً ما يُجرَى أحدهما مُجرى صاحبه فيعوَّل به في الاستعمال إليه (كذا) ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه وإن كان طريقُ الاستعمال والعرف ضده مأخذه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {هل لك إلى أن تزكى} وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: آخُذُ بك إلى كذا أو أدعوك إليه، قال: {هل لك إلى أن تزكى}.
وقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187] لا يقال: رفثت إلى المرأة، إنما يقال: رفثت بها، ومعها، لكن لما كان الرفث في معنى الإِفضاء عدّي بـ: (إلى) وهذا من أسَدّ مذاهب العربية، لأنه موضع يملك فيه المعنى عِنان الكلام فيأخذه إليه. اهـ.
قيل: ليس هذا من باب التضمين بل من باب المجاز والقرينة الجارة.
و{تزكى} قرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب بتشديد الزاي على اعتبار أن أصله: تتزكى، بتاءين، فقلبت التاء المجاورة للزاي زاياً لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الزاي.
وقرأه الباقون بتخفيف الزاي على أنه حدفت إحدى التاءين اقتصاراً للتخفيف.
وفعل {تزكى} على القراءتين أصله: تتزكى بتاءين مضارع تزكى مطاوع زكاه، أي جعله زكياً.
والزكاة: الزيادة، وتطلق على الزيادة في الخير النفساني قال تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} [الشمس: 9، 10] وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة ولذلك لا يحتاج إلى قرينة.
والمعنى: حَثُّهُ على أن يستعد لتخليص نفسه من العقيدة الضالة التي هي خبث مجازي في النفس فيقبَلَ إرشاد من يرشده إلى ما به زيادة الخير فإن فعل المطاوعة يؤذن بفعل فَاعِل يعالج نفسه ويروضها إذ كان لم يهتد أن يزكي نفسه بنفسه.
ولذلك أعقبه بعطف {وأهديك إلى ربك فتخشى} أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى، فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعىً فيه ترتبها في الحصول فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريع، إذ كثيراً ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة، ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى (أي) التفسيرية فإنَّ {أن تزكى وأهديك} في قوة المفرد.
والتقدير: هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى.
والهداية الدلالة علء الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المَهْدي.
وتفريع {فتخشى} على {أهديك} إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى: {إنما يخشى اللَّه من عبادة العلماء} [فاطر: 28]، أي العلماء به، أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير.
قال الطيبي: وعن الواسطي: أوائل العلم الخشية، ثم الإِجلال، ثم التعظيم، ثم الهيبة، ثم الفناء.
وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ لأن الخشية ملاك كل خير.
وفي (جامع الترمذي) عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من خَافَ أدْلَج ومن أَدْلَج بلغ المنزل».
وذُكِر له الإله الحق بوصف {ربك} دون أن يذكر له اسمُ الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافاً في الدعوة إلى التوحيد وتجنباً لاستطارة نفسه نفوراً، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم لله تعالى، ولو عَرَّفه له باسمه في لغة إسرائيل لنَفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة، فكان في قوله: {إلى ربك} وفرعون يعلم أن له رباً إطماع له أن يرشده موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيُصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخَلهُ الإِيمان الحق مدرَّجاً، ففي هذا الأسلوب استنزالٌ لطائره.
والخشية: الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى، ولهذا نُزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإِيمان في لسان الشرع يقال: آمَن فلان، وفلان مؤمن، أي مؤمن بالله ووحدانيته.
{فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)}
الفاء في قوله: {فأراه الآية الكبرى} فصيحة وتفريع على محذوف يقتضيه قوله: {اذهب إلى فرعون} [النازعات: 17].
والتقدير: فذهب فدعاه فكذبه فأراه الآية الكبرى، وذلك لأن قوله: {إنه طغى} [النازعات: 17] يؤذن بأنه سيلاقي دعوةَ موسى بالاحتقار والإِنكار، لأن الطغيان مِظنّة ذينك، فعرض موسى عليه إظهار آية تدل على صدق دعوته لعله يوقن كما قال تعالى: {قال أو لو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين} [الشعراء: 30 32]، فتلك هي الآية الكبرى المرادة هنا.
والآية: حقيقتها العلامة والأمارة، وتطلق على الحجة المثبتة لأنها علامة على ثبوت الحق، وتطلق على معجزة الرسول لأنها دليل على صدق الرسول وهو المراد هنا.
وأعقب فعل {فأراه الآية الكبرى} بفعل {فكذب} للدلالة على شدة عناده ومكابرته حتى أنه رأى الآية فلم يتردد ولم يتمهل حتى ينظرَ في الدلالة، بل بادر إلى التكذيب والعصيان.
والمراد بعصيانه عصيان أمر الله أن يوحده أو أن يُطلق بني إسرائيل من استعبادهم وتسخيرهم للخدمة في بلاده.
وعطف {ثم أدبر يسعى} بـ: {ثم} للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجُمل، فأفادت {ثم} أن مضمون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإِدبار والسعي وادعاء الإلهية لنفسه، أي بعد أن فكّر ملياً لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذيرَ الناس منها.
والإِدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين فإن حقيقة الإِدبار هو المشي إلى الجهة التي هي خَلْف الماشي بأن يكون متوجهاً إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها.
وهو هنا مستعار للإِعراض عن دعوة الداعي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة لما أبى الإِيمان: «ولئن أدبرتَ ليَعْقِرَنَّكَ اللَّه».
وأما السعي فحقيقته: شدة المشي، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناسَ بعدم الإِصغاء لكلام موسى، وجمع السحرة لمعارضة معجزته إذ حسبها سحراً كما قال تعالى: {فتولى فرعون فجمع كيده} [طه: 60].
والعمل الذي يسعى إليه يبينه قوله تعالى: {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى} فثلاثتها مرتبة على {يسعى}.
فجملة {فحشر} عطف على جملة {يسعى} لأن فرعون بذل حرصه ليقنع رعيته بأنه الربُّ الأعلى خشية شيوع دعوة موسى لعبادة الرب الحق.
ويجوز أن يكون {أدبر} على حقيقته، أي ترك ذلك المجمع بأن قام معرضاً إعلاناً بغضبه على موسى ويكون {يسعى} مستعملاً في حقيقته أيضاً، أي قام يشتدّ في مشيه وهي مشية الغاضب المعرض.
والحشر: جمع الناس، وهذا الحشر هو المبيّن في قوله تعالى: {قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم} [الشعراء: 36، 37].
وحذف مفعول (حشر) لظهوره لأن الذين يحشرون هم أهل مدينته من كل صنف.
وعطف {فنادى} بالفاء لإِفادة أنه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم.
والنداء: حقيقته جهر الصوت بدعوة أحد ليحضر ولذلك كانت حروف النداء نائبة مناب (أدعو) فنصبت الاسم الواقع بعدها.
ويطلق النداء على رفع الصوت دون طلب حضور مجازاً مرسلاً بعلاقة اللزوم كقول الحريري في (المقامة الثلاثين): فحِين جلس كأنه ابنُ ماءِ السماء، نادَى مُنادٍ من قِبَل الأحماء. الخ.
وحذف مفعول (نادى) كما حذف مفعول (حشر).
وإسناد الحشر والنداء إلى {فرعون} مجاز عقلي لأنه لا يباشر بنفسه حشر الناس ولا نداءهم ولكن يأمر أتباعه وجنده، وإنما أسند إليه لأنه الذي أمر به كقولهم: بنَى المنصور بغداد.
والقول الذي نادى به هو تذكير قومِه بمعتقدهم فيه فإنهم كانوا يعتبرون مَلك مصر إلها لأن الكهنة يخبرونهم بأنه ابن (آمون رَعْ) الذي يجعلونه إلها ومَظهَره الشمس.
وصيغة الحصر في {أنا ربكم} لردّ دعوة موسى.
وقوله: {فقال أنا ربكم الأعلى} بدل من جملة {فنادى} بدلاً مطابقاً بإعادة حرف العطف، وهو الفاء لأن البدل قد يقترن بمثل العامل في المبدَل منه لقصد التأكيد كما في قوله تعالى: {ومن النخل من طلعها قنوان دانية} وتقدم في سورة الأنعام (99).
ويجوز أن تكون جملة: {فقال أنا ربكم} عطفاً على جملة {يسعى} على أن يكون فرعون أمر بهذا القول في أنحاء مملكته، وليس قاصراً على إعلانه في الحشر الذين حشرهم حول قصره.
فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن (أمون رَعْ) وهوالرّب الأعلى، فابنه هو القائم بوصفه، أو لأنه كان في عصر اعتقاده: أن فرعون رب الأرباب المتعددة عندهم فصفة {الأعلى} صفة كاشفة.
{أَخَذَهُ اللَّهُ نكال الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}
جملة {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} مفرعة عن الجُمل التي قبلها، أي كان ما ذكر من تكذيبه وعصيانه وكيده سبباً لأن أخذه الله، وهذا هو المقصود من سَوق القصة وهو مناط موعظة المشركين وإنذارهم، مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته.
وحقيقة الأخذ: التناول باليد، ويستعار كثيراً للمقدرة والغلبة كما قال تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [القمر: 42] وقال: {فأخذهم أخذةً رابية} [الحاقة: 10].
والمعنى: فلم يُفلت من عقاب الله.
والنكال: اسم مصدر نكَّل به تنكيلاً وهو مِثل: السَّلام، بمعنى التسليم.
ومعنى النكال: إيقاع أذى شديد على الغير من التشهير بذلك بحيث يُنَكِّل، أي يَرُد ويَصْرِف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكَّل به، فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب، قال تعالى: {فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها} في سورة البقرة (66).
وانتصب {نكال} على المفعولية المطلقة لفعل (أخذه) مبين لنوع الأخذ بنوعين منه لأن الأخذ يقع بأحوال كثيرة.
وإضافة {نكال} إلى {الآخرة والأولى} على معنى (في).
فالنكال في الأولى هو الغرق، والنكال في الآخرة هو عذاب جهنم.
وقد استُعمل النكال في حقيقته ومجازه لأن ما حصل لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكال يوم القيامة.
وورود فعل (أخذه) بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مُراعىً فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيؤول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث.
وتقديم {الآخرة} على {الأولى} في الذكر لأنّ أمر الآخرة أعظم.
وجاء في آخر القصة بحوصلة وفذلكة لما تقدم فقال: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} فهو في معنى البيان لمضمون جملة {هل أتاك حديث موسى} [النازعات: 15] الآيات.
والإِشارة بقوله: {في ذلك} إلى {حديث موسى} [النازعات: 15].
والعِبرة: الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها وعاقبة أمثالها، وهي مشتقة من العَبْر، وهو الانتقال من ضفة وادٍ أو نهر إلى ضفته الأخرى.
والمراد بالعبرة هنا الموعظة.
وتنوين (عبرة) للتعظيم لأن في هذه القصة مواعظ كثيرة من جهات هي مَثُلات للأعمال وعواقبها، ومراقبةِ الله وخشيته، وما يترتب على ذلك وعلى ضده من خير وشر في الدنيا والآخرة.
وجُعل ذلك عبرة لمن يخشى، أي من تُخالط نفسَه خشيةُ الله لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها، قال تعالى: {إنما يخشى اللَّه من عباده العلماء} [فاطر: 28] وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
والخشية تقدمت قريباً في قوله: {وأهديك إلى ربك فتخشى} [النازعات: 19].
وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه.
وفي القصة كلها تعريض بسادة قريش من أهل الكفر مثل أبي جهل بتنظيرهم بفرعون وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم فرعون ونادى فيهم بالكفر، وقد عَلِم المسلمون مضرب هذا المثل فكان أبو جهل يوصف عند المسلمين بفرعون هذه الأمة.
وتأكيد الخبر بـ: {إنَّ} ولام الابتداء لتنزيل السامعين الذين سيقت لهم القصة منزلة من ينكر ما فيها من المواعظ لعدم جريهم على الاعتبار والاتعاظ بما فيها من المواعظ. اهـ.